اللّقمة بعد الجراح

 

حين انفجرت تلك الآلة الاتصالية، لم يكونوا يعلمون أن أيديهم وأعينهم ستبقى هناك، حيثُما انفجرت. ولم يكونوا يدرون أن ما تبقّى لهم من حياتهم، سيُقاس ببطء اللقمة، وثقل الملعقة، وقساوة الخبز اليابس. "أبو حيدر"، "أبو علي" وامرأته فقدوا أجزاء من جسدهم… لكنّهم لم يفقدوا جوعهم للحياة. كل شيء تغيّر: جسدهم، عيونهم، وحتى طبقهم اليومي. أصبح للطعام مواعيد مع الدواء، وللملعقة رنين يذكرهم... ومع ذلك، يُقاومون... 

لم يعودوا منتظرين الشفاء الكامل، لكنهم يصنعون توازنهم بين الحيّ والناقص، بين ما خسروه وما زال يحمل اسمهم. هذه القصة ليست فقط عن حربٍ مزّقت الجسد، بل عن إنسان أعاد ترتيب حياته على المائدة بصبرٍ، وبقلبٍ ينبض بالمقاومة. "كنت رايح أجيب ربطة خبز"، يقولها بصوت لا يزال يحمل شيئاً من الذهول. "سمعت الصوت… وعيوني سكرِت. حسّيت جسمي صار خفيف، وبعدين صار تقيل كتير". اللحظة التي سبقت الانفجار ما زالت تُعرض أمامه يومياً. يتذكر كيف كانت يده تتحرّك بشكل عادي. كيف كان يستطيع أن يقلي بيضتين من دون أن يُفكر بذلك. “ما بقى فيني شي اسمه تلقائي. كل شي صار بده وقت، وتركيز، وصبر...”. بعد الإصابة، خضع "أبو حيدر" لعمليات جراحية عدة. بُترت يده من تحت الكتف، وتضررت عيناه الاثنتان، وتلقى علاجاً طبيعياً مكثفاً ليتعلّم كيف يستخدم جسده من جديد. لكن الجرح لم يكن فقط في الجسد.
"كنت أستحي آكل قدّام حدا. حسّيت حالي عبء، وكنت أترك السفره وأقعد لحالي". إحساس العجز تسلّل من الملعقة إلى القلب، ومن الجرح إلى نظرات الناس. ولأن الجرحى في المجتمع غالباً ما يُنظر إليهم كأبطال صامتين، لم يكن من السهل أن يُعبّر عن ضعفه. لكنه وجد في التغذية باباً للعودة… باباً صغيراً جداً، لكنه كافٍ ليبدأ. دخلت أخصائية التغذية إلى حياته كمن يدخل غرفة مظلمة ويشعل ضوءاً صغيراً. 
"بكل بساطة، بدنا نبلّش من أول وجديد"، قالت له.

بدأت تعدّ له جدولاً غذائياً بسيطاً، يتناسب مع قدرته على الأكل، نوع الأدوية، وطبيعة إصابته. "أكتر شي ساعدني هو إنها ما تعاملت معي كحالة ميؤوس منها… حسّيت إنو فيني أرجع، شوي شوي". في البداية، كان يأكل فقط وجبتين خفيفتين يومياً. الآن، يستطيع أن يُحضّر لنفسه وجبة فطور شبه كاملة، ويأكلها بنفسه. "في ناس يمكن تشوفها شغلة تافهة… بس أنا لما قشّرت تفاحة لحالي لأول مرة، بكيت". "أبو حيدر" لم يكن فقط يتعلّم كيف يأكل… بل كيف ينهض من فكرة العجز. كل ملعقة كانت تذكّره بأنه ما زال قادراً. "حتى لو اليد راحت، الإرادة ما راحت".
صارت حياته مقسّمة بين العلاج، والراحة، وتحضير وجباته البسيطة. "بطلت آكل بسرعة، صرت أقدّر كل لقمة، لأنو كل وحدة منهن عم تخليني أقوى". بدأ يدوّن وصفاته الصغيرة، ويصوّر نفسه وهو يحضّرها، ليرسلها لجريح آخر يتعافى بدوره. زوجته، أم حيدر، كانت أول من مدّ له يده بعد الإصابة - يد مليئة بالحب وليس بالشفقة. “هي كانت عم تطبخ وتعلّمني، تشجّعني، وتتركني أغلط”.  قصة "أبو حيدر" ليست فقط عن إصابة، ولا حتى عن مقاومة. إنها قصة إنسان اختار أن يجعل من كل لقمة حكاية نهوض، ومن كل وجبة مساحة للكرامة. الحرب حاولت أن تسرق منه جسده، لكن لم تستطع أن تسلبه قراره بأن يعيش. وفي كل مرة يحمل ملعقته بيده الوحيدة، يعلن أنه باقٍ… وأن الحياة تستحق أن تُعاش، حتى لو تغيّرت ملامحها كنتُ أعرف أنني سأقابل جرحى، لكنني لم أكن أتوقع أن أجد أسرة كاملة جريحة… ومقاومة. جلستُ أمام "أبو علي" وزوجته في بيت متواضع، تفوح منه رائحة القهوة والكرامة
هو جريح بيجر، فقد أطراف يديه، ولا يرى من عينيه إلا بصيصاً بالكاد يضيء له حدود وجه من يجلس أمامه. زوجته أيضاً جُرحت في العدوان… العين اليسرى لم تعد ترى منذ ذلك اليوم. ومع ذلك، جلست أمامي امرأة تضحك… تمازحه، تمسك يده التي لم تعد يداً، وكأنها ما زالت هناك. وفجأة، دخل "علي" - طفلهم الصغير، ابن الست سنوات. جلس في حضن أبيه، ثم التفت إليّ وقال بصوته الخجول: "أنا بأكل مثل بابا… بحبّه كتير… هو قوي… وأنا كمان بدي كون قوي".

نظرت إليه، فوجدت فيه طفلاً يأكل طعام الحرب، لكن بروح الحياة. لم يكن يعرف التفاصيل الطبية، ولا اسم المرض، ولا ما معنى "قيود غذائية". هو فقط يعرف أن أباه لا يستطيع أن يأكل إلا بطريقة معينة، وأنه يحب أن يقلّده، لأن ذلك هو معنى الحب في عقله الصغير. سألت "أبو علي" كيف كانت رحلته مع الغذاء بعد الإصابة؟ أطرق برأسه للحظة، ثم قال: "أنا كنت آكل بيدي… شو ما طاب لي، آكله. بعد الإصابة، صارت كل لقمة مشروع معاناة. لازم حدا يطعمني… مرات ما بطيق حالي، بس ابني بيقعد يطعمني هو، بإيده الصغيرة. صار الطعام فعل حبّ مش بس حاجة".
سألته زوجته فجأة، مقاطعة بلطف: "بس نحنا مش منستسلم… منغيّر أنواع الأكل، منقلل ملح، منشتغل مع أخصائيّة، بس مناكل سوا… على نفس الطاولة. وما فينا نخلي المرض ينتصر".
هذه العائلة لم تُقهر. صحيح أنهم خسروا أطرافاً وأبصاراً، لكنهم لم يخسروا بعضهم، ولا قدرتهم على أن يحوّلوا المائدة إلى مساحة من العطاء.

بودكاست مع الجريح ابو الفضل

في أحد اللقاءات، زرتُ معالجاً نفسياً كان قد رافق حالات عدّة من جرحى الحرب. أردت أن أفهم منه الجانب الذي لا يُرى في الصحن… لا يُلمَس في الملعقة… بل يُثقل النفس. كيف من الممكن أن تؤثر القيود الغذائية على الصحة النفسية؟ أجاب المعالج النفسي بنبرة هادئة، كمن اعتاد سماع الكثير من الحكايات الموجعة: "الغذاء مش بس حاجة جسدية، هو طقس اجتماعي ونفسي. لما الجريح يُمنَع أو يُجبَر على تغيير عاداته الغذائية، بيشعر إنو فقد جزء من ذاته، من هويته، ومن راحته. هالشي ممكن يسبب مشاعر حزن، قلق، أو حتى غضب مكبوت". وكيف يمكن مساعدته على تقبّل هذا التغيير دون رد فعل عكسي؟ فكر المعالج للحظة، ثم قال: "الخطوة الأولى هي إعطاءه مساحة للتعبير. لازم يعرف إنو الغضب أو الحزن طبيعي. بعدين نشتغل على فكرة إنو التغيير مش خسارة، بل تكيف. من خلال جلسات دعم نفسي، ودمج الغذاء الجديد بأسلوب فيه خيارات، بيشعر إنو بعده صاحب القرار. المهم ما نحطّه بموقع الضحية، بل بموقع الإنسان القادر على التكيّف". في أحد اللقاءات، زرتُ معالجاً نفسياً كان قد رافق حالات عدّة من جرحى الحرب. أردت أن أفهم منه الجانب الذي لا يُرى في الصحن… لا يُلمَس في الملعقة… بل يُثقل النفس. كيف من الممكن أن تؤثر القيود الغذائية على الصحة النفسية؟ أجاب المعالج النفسي بنبرة هادئة، كمن اعتاد سماع الكثير من الحكايات الموجعة: "الغذاء مش بس حاجة جسدية، هو طقس اجتماعي ونفسي. لما الجريح يُمنَع أو يُجبَر على تغيير عاداته الغذائية، بيشعر إنو فقد جزء من ذاته، من هويته، ومن راحته. هالشي ممكن يسبب مشاعر حزن، قلق، أو حتى غضب مكبوت". وكيف يمكن مساعدته على تقبّل هذا التغيير دون رد فعل عكسي؟ فكر المعالج للحظة، ثم قال: "الخطوة الأولى هي إعطاءه مساحة للتعبير. لازم يعرف إنو الغضب أو الحزن طبيعي. بعدين نشتغل على فكرة إنو التغيير مش خسارة، بل تكيف. من خلال جلسات دعم نفسي، ودمج الغذاء الجديد بأسلوب فيه خيارات، بيشعر إنو بعده صاحب القرار. المهم ما نحطّه بموقع الضحية، بل بموقع الإنسان القادر على التكيّف".
كلمات ترنّ في الرأس. صحيح أن الجرح في الجسد، لكنّه في كثير من الأحيان يبدأ من الداخل. لم تُلقِ الحرب سلاحها على هذه العائلة، لكنها أيضاً لم تنتزع منهم كل شيء. ففي كل لقمة يتناولها "أبو علي"، هناك يد صغيرة تطعمه، وعينان صغيرتان تراقبانه بإعجاب. وفي كل طبخة تُعدّها زوجته، رغم ألم العين، نكهة لا يعرفها سوى من قاوم الجوع بالحُب، والضعف بالعزيمة. هذه ليست مجرد قصص عن إصابات تفجيري البيجر واللاسلكي اللذين نفذهما الموساد ضد شريحة من اللبنانيين في يومي 17 و 18 أيلول/سبتمبر 2024.

هي دروس حيّة في التحمّل، في الكرامة، في المعنى العميق لأن تبقى واقفاً رغم الجراح والآلام. أن تُبصر النور الداخلي - حتى ولو بعينٍ واحدة. أن تواصل الحياة  - لا كضحية، بل كمنتصر على أثر العدو، لا على روحه. "أبو علي" وأسرته، و"أبو حيدر"، وكل جرحى البيجر، لم يخسروا. هم ما زالوا هنا، في تفاصيل الطعام، وفي تفاصيل الدعاء، وفي كلّ مائدة تُقام رغم الألم. لقد انتصروا حين قرّروا ألا يُشبهوا الجرح. حين رمّموا أنفسهم بالحبّ، لا بالشفقة. حين قالوا: "أخذتم منّا أطرافاً… لكن لن تأخذوا جوهرنا"..


في نهاية الزيارة، بينما كنت أستعد للمغادرة، التفت إليّ “أبو حيدر” فجأة وقال:
“ما كنت بعرف إنو الحياة فيها وجه تاني، وجه ما بيبان إلا لما نخسر شي كبير. بس هالخسارة ما لازم تكون النهاية”.

سألته: “شو أكتر شي اشتقتله؟”
رد بسرعة، كأن الجواب محفور بذاكرته:
“إنّي ألبس جرابي بإيدي… لحالي… بلا ما حدا يساعدني. كنت استسهلها، بس اليوم بحسها قمّة الاستقلال”.
ضحك بعدها بخفة، ثم أضاف: “أوقات بلبس فردة صح وفردة غلط، بس على القليلة… أنا لبّستن”.

كانت تلك الضحكة الصغيرة، رغم الجرح، أكبر من أي انتصار.

لم تكن لحظة بوحٍ عابرة. كانت إعلان حياة.

في طريق العودة، كان الصمت يرافقني أكثر من الكلمات. تذكّرت تلك الأعين التي لا ترى، لكنها ترى القلوب. وتلك الأيادي التي لم تعد كاملة، لكنها تمسك بالحياة بقوةٍ لا تُقاس.

تذكرت كيف أخبرني “أبو علي” عن روتينه الجديد في الأكل:
“أحيانًا، بقعد لحالي بعد الظهر، وبحاول أفتّ علبة تونا. بتاخد معي شي 15 دقيقة… بس بفتّحها. مش كرمال التونا، كرمال إحساسي إني قدرت”.

ثم بصوته المتعب الحنون قال:
“يا أختي، نحنا مش ناس بدنا شفقة. بدنا فرصة. بدنا وقت. بدنا حدا يسمعنا من دون ما يغيّر ملامح وجهه”.

حتى الطعام، أصبح فعل مقاومة.

لم يعد طبق الحساء فقط وجبة دافئة… بل صار درسًا في الصبر. لم تعد تفاحة مقشّرة تعني مجرد وجبة خفيفة… بل إعلانًا بأن اليد المتعبة ما زالت تخلق.

والمائدة؟ تحوّلت من مساحة اجتماعية روتينية، إلى طقس يومي يعيد ترتيب الكرامة.

“أنا صرت آكل ببطء، مش لأنّي عم دلّع… بس لأنّو جسمي بطّل يستوعب بسرعة”، قالتها زوجة “أبو علي”، وهي تشرح كيف تُعدّ لكل فرد من العائلة وجبته بحسب حاجته.

“بس منقعد سوا، كلنا… حتى لو كل واحد بيأكل بطريقته”.

هنا، في منازل الجرحى، الطعام ليس طقسًا بيولوجيًا فقط، بل حوارًا صامتًا مع الألم، ومع الذات.
كل جرح في خاصرة، أو عين، أو يد، له صدى على المائدة.
وكل لقمة تُؤكل رغم الوجع، هي بمثابة تكذيب للعدو الذي ظنّ أنه قتل فيهم الرغبة بالحياة.

قالت أم حيدر، وهي تضع يدها على كتف زوجها بحنان:
“ما بدّي شي من هالدنيا… بس يضل ياكل لحالو، ويضحك، ويحكي قصصو لابني لما يكبر”.

ثم نظرت إليّ، وكأنها تسألني من دون صوت:
هل تظنّين أن الحياة تُقاس بعدد الأيدي التي نملكها؟ أم بعدد القلوب التي لم تستسلم؟

عند الباب، قبل أن أودّعهم، طلب مني “أبو علي” أن أكتب عنهم “متل ما هني”، لا كأرقام أو أبطال خارقين، بل كناس… بيحسّوا، بيتوجّعوا، بس بعدن واقفين.

قال لي:
“اكتبي عن شو يعني تأكل وانت موجوع… عن شو يعني تحاول تاكل لحالك كرمال ما تزعج مرتك… عن شو يعني ابنك يشيل الملعقة عن الأرض ويقلك: بابا، خلّيني أنا أطعمك”.

هذه اللحظات الصغيرة، قد لا تجد مكانًا في نشرات الأخبار، لكنها الحقيقة التي يعيشونها.

ما تعلّمته في تلك البيوت، لم يكن عن الحرب فقط… بل عن السلام الداخلي الذي يولد من رحم الجرح.

تعلمت أن التغذية ليست فقط وجبة متكاملة، بل فعل حبّ، فعل صمود، فعل هوية.

أن جريح الحرب لا يحتاج فقط إلى دواء، بل إلى من يُشاركه مائدته بكرامة.

حين خرجت من بيت “أبو حيدر”، كانت الشمس تميل نحو الغروب.

لكنّ نورًا آخر بقي في داخلي… نور هؤلاء الذين رمّموا أجسادهم كما يُرمّم الفقراء بيوتهم… بطبخة دافئة، وبضحكة ابن، وبيدٍ واحدة تصنع الحياة.

انتهت الحرب على الورق، لكن في قلب الجريح، هناك حرب أخرى… حرب البقاء، حرب اللقمة، حرب العودة من تحت الركام، ولو بحاسةٍ واحدة.

ولعلّ أجمل انتصار… هو أن تنهض من على مائدتك، وتقول:

“أنا عايش… ورح ضل آكل، حتى لو صار الوقت والوجع جزء من وصفتنا”